12 سبتمبر 2009

أنا وجاري



أنا وجاري
لطالما كرهته ... وتذمرت عند سماع صوته...
كان مزعجاً في كل الاوقات في الصباح وطبعاً هو مزعج أيضاًعند المساء
كلمة (لماذا) كانت على مايبدو اسم حبيبته المفقودة أيام صباه ...لطالما إعتاد أن يرددها في كل حين وكل وقت آه ما أشقاه... متذمر غاضب وكل خوفه من المرآة , نذر نذره منذ عصور وأوفاه , لن يدع مشطاً يلامس شعره فكما نعلم قوة الوحوش تكمن في شعورهم الطويلة ... كان أشعث أغبر , وعلى صخب جيرانه على حد قوله هو الأصبر
إستقبلنا جارنا بعد غيابنا لسنين عن بيتنا بورقة طويلة من التنبيهات والتحذيرات والمحظورات ...
لاتغسلوا أرضية بيتكم فأخاف أن تصل بيتي المياه , ولا تعتادوا كل يوم على الاغتسال... لاتهدروا المياه أو الكهرباء ,لاتطيلوا السهر فأنا أنام بعد العشاء
ممنوع عليكم تشغيل التلفاز أو المذياع ...
تحطمت آمالنا على شفاه جارنا الودود ...وبدأ شهر اجازتنا الذي لطالما حلمنا بقدومه وأعددنا العدة لاستقباله يرحل مرصعاً بالقيود ...
وقطار السعادة المنظر... يفوت ...
قطعنا مسافات طوال عبرنا بحاراً ...ثم اجتزنا ودياناً و أنهار لتحط قافلتنا السعيدة ببيتنا الريفي فوق بيت جارنا وزوجته الخرساء الحبيبة ...
الجدير بالذكر ! أنه حرم علينا ماحلله لنفسه فقد كان يحيط بمنزله حديقة خضراء تفوح منها رائحة الزنبق والياسمين ...
وعندما كانت تعلو ضحكاته وضحكات أقاربه وزوجته الخرساء في المساء
نسعد بغباء ظناً منا أنه نسينا ... فيأخذنا الحماس ويدب النشاط في أقدامنا لنتحرك داخل بيتنا كالذرات بعد تعرضها للحرارة ... نجري هنا وهناك ..
.فيقاطع جارنا نشاطنا بسلسلة من الشتائم والتوجيهات والإنتقادات ... فتهتز الأرض تحت أقدامنا رعبا ًويخيف صراخه الأزهار فتنام فزعاً ( لاتركضوا ولا ترقصوا إمشوا ببطئ أيها الجيران فوق ....ماهذا الازعاج !)

- وحقيقة لم أكن أعلم سبب خوفنا من جارنا... و لكننا فعلياً كنا منه نخاف...
مرت أيام إجازتنا بطيئة مملة ... في حين كانت أحلامنا كل يوم تتكسر على جدران منزلنا المملوء باليأس والحرمان...
جارنا موجود ... هوموجود في منزله دائماً ... ولم أره يوما يخرج منه...حتى الى السوق...

- أذكر أني خرجت في تلك الليلة الى شرفة منزلنا الصيفي لأتأمل عظمة الخالق الذي أبدع سبحانه في كل ماخلق وصور... كان القمر حينها بدراً وقد نشر نوره ليغطي سطح الأرض المخضرة على إمتداد حدود نظري...
وفي تلك الليلة عقد القمرمعاهدة صلحٍ ٍ مع الغيوم في السماء... فكانت تمر بجانبه على استحياء لتصبح شالاً على رقبتة ... تعانقه لثواني ثم تودعه وتمضي...
في حين حلق عبق الياسمين مغرداً نحو الفضاء ... منتصراً على كل العطور التي صنعها يوما بنو البشر ... مثبتا ًأن صنعة الخالق هي الأشذى ...أبداً...
ولم يقطع صمت المكان سوى حركات من الأسفل من عند بيت الجيران...
اختبأت خلف الجدار لأراقب من أفسد علي وحدتي ... وأبداً لم أستغرب عندما عرفت أنه الجار...
دفعني فضولي لأعرف سبب خروجه من منزله في هذا الوقت المتأخرمن الليل...
وقد ارتسمت على ملامحي المستغربة كلمات ( ألا يتعب ألا ينام!)
كان رجلٌ في السبعين ...قصيرٌ جدا قصير... كره اللون الأسود شعر رأسه على مايبدو منذ زمن بعيد ورحل الى حيث لارجعة... ليعتلي اللون الأبيض بشموخ صهوة رأسه المصلع ...
جلس على التراب في أرض الحديقة ... بعد أن أعطاني ظهره لأتامل فيه قليلا ...
لم تكن عظام عموده الفقري مختبأة خلف قميصه ... كانت بارزة للعيان وكأنها مجموعة جبال بينها وديان... وعندما مد يده المرتجفة لتأخذ شيئا كان قد رئاه على الأرض فأزعجه... سمعت حينها أنين جباله على ظهره تتألم من حركة صاحبها العنيفة...فإشتركت حنجرته الضعيفة في الإعتراض وأنت بصوت مبوح هارب من بين شفاهه الغليظة
(اه.. ظهري ...اه..)

أمسكت يده اليايسة التي لم تشرب قطرة مطر منذ عصور بغصن يابس يشبهها...
وحاولت أصابعه المتكسرة أن تخضع الغصن الصغير لكن دون جدوى...
فإستعان بيده الاخرى علها تفيد ... وحاول من جديد أن يحطم الوحش اليابس بين يديه ...
في حين ظل الغصن العنيد العجوز صامداً أمام محاولات الجار المكفهر ...
وهنا لبس الجار وجه الغضب على ملامحه وانتصر على الغصن الصغير بأن رماه بعيد...ولكن ليس ببعيد!!!...
وضع كلتا كفيه على التراب وأسند إليها ثقل جسده ...ورفع جسده المهترء عن الأرض... فجن جنون حنجرته ورفعت إليه كل اعتراضاتها على تصرفاته الصبيانية... باحتجاج...وكعادته كان الجار أقوى من الاعتراضات شديد جدا على كل الاحتجاجات...وتعامل مع الأزمة بصمت ...
وكيف يكترث للاعتراضات وهو من إعتاد أن يصدرها...
ثم وببطئ السلحفاة وخفة لصٍ سفاح ... لملم خطواته وإختفى عن الأنظار....

- كا
نشر الرسالة
ن هذا جاري ... من خرب علي رحلتي في اجازتي...وسجنني في عقر داري لطالما أشعل في قلبي ناري...وحول ليلي نهاري...
لعله حاول أن يفرض سيطرته علينا ليثبت لنفسه أنه مازال في هذه الحياة موجود
وأنه من يستطيع أن يفرض القوانين ويكبل من يريد بالقيود...
لعله لم يقوى على جسده النحيل المريض فنشر خوفه وألمه على من هم حوله... فكانت صرخته للاحتجاج على ضعفه بعد القوة ...
وجه جاري المشبع بالأخاديد الطولية والعرضية سيبقى في مخيلتي الى الأبد ... كيف إستطاع أن يجمع القوة والضعف والألم...لملم سكاكين مرضه الموجه اليه ووجهها نحو كل من حوله فكان ذو عزم وشدة وسطلة... تحدى خوفه من هروب شبابه المنهزم وانتصرعلى طواحين هواء التقدم في العمر...
...أتمنى من كل قلبي أن أراه في السنة المقبلة بنفس الهمة والعزيمة ...ليعود ومن جديد... ويدمر إجازتي الصيفية الجديدة .
>
اقرأ المزيد »

08 سبتمبر 2009

زهور الزنبق


زهور الزنبق

العاشرة مساءاً... وليل مفجع يداهم شوارع المدينة... ناشراً ظله وحزنه على أغصان الزيزفون العتيق...

ووراء خيوط العنكبوت ألف ألف حكاية و حكاية ...

وقبل أن تتكسر أغصان زهور الزنبق كانت هناك أحجية خفية ...تكاد تكون ذات الوقت محكية...

خدعة الألف ميل المبتدئة دوماَ بميل مارست مهارتها على برائة طفولة الطفولة ...

وحتى لايضيع الحق وتهزم الإبتسامة القديمة ...

دفع ثمن مالا يقدر بثمن... كالعادة رخيصاً...

من يشتري الزنبق.... وهل حكم عليه أن يشرى ويباع ثم يزج به في براثن الضياع ...

العاشرة مساءاً... وقت خروج الذئاب العطشى نحو كبد المدينة ...

تشرب من دم خفاش جريح...

ثم تطبق الأنياب على نحر غزال قتيل ...

...

بللت دموع قطرات المطر بماء أجاج شعر وكتف صاحبة العيون الجذلى ...

فكانت كمن تحمم بعطر وتنشف بنور...

وكيف لا ...؟؟ فلا زالت هي بعمر الزهور... يحاول جسدها الغض الطري الخروج من شرنقته الصغيرة... بعد صبر دام عقد وقبضة من السنين ...وفي عقلها وقلبها سكن حنين الحنين للعب مع صديقاتها في الابتدائية...

ناء جسدها من كثرة اللف والدوران... فقد جابت اليوم شوارع جديدة ناشرة ً زنبقها على حبل الغسيل...

...

إقترب صاحب السيارة الفارهة من إناء زهور صاحبة العيون الجذلى ...

شدته رائحة الفقر فيها...

كان الثلج قد غطى فروة رأسه منذ زمن ... وحفرت السنين أخاديدا في قفر وجهه ...

وإختبئ كل الباقي منه عن الورى... خلف نظارة كبيرة سوداء...

و عندما سألها عن سعر كل الزنبق بيدها ... إمتدت اليها قضب الأمل بالعودة الى برد بيتها ...ونضح الماء من صخرة جوعها وإنهاكها ...

طأطأت رأسها وردت بخجل ( كما تريد ياسيدي ) ...

وعندما مدت بأغصان الزنبق نحو السائق ...غزا الرعب قلبها الصغير عندما رأت إبتسامته المصفرة... و قد تجلت عن أنيابه الرمادية... فزادت الأخاديد على قفر وجهه عددأ وعمقاَ...

(إركبي السيارة ... إركبي في المقعد الخلفي... سوف أعطيكي ثمن زنبقك...

ثم أعيدك لبيتك...

هل هو بعيد ؟؟؟... قديم أم جديد ؟؟؟ )

(رددت بتردد ... بيتي بعيد ...أسكن مع أمي وإخوتي وهم بإنتظاري في بيتنا القديم)

فتح باب السيارة الخلفي ...وسرعان ما إختفت صاحبة العيون الجذلى في جوف حديد...

تحركت العجلات الضخمة فوق زهور زنبق بطعم الدم...

ثم إنطلقت المركبة إلى البعيد ... البعيد ...

تاركة ًورائها جدائل صاحبة العيون الجذلى على إسفلت الشارع المظلم مجروحة .


اقرأ المزيد »